تحولات المسيحية في الولايات المتحدة تراجع الدين بين البالغين الأميركيين على الطريقة الأوروبية
أفاد استطلاع واسع أجراه “مركز بيو للدراسات” ونشر في سبتمبر الحالي بأن أعداداً كبيرة من الأميركيين قد تركوا الديانة المسيحية منذ التسعينيات لينضموا إلى الفئة المتزايدة من البالغين الأميركيين الذين يصفون هويتهم الدينية بأنهم “ملحدون” أو “لا أدريون” أو “بلا دين خاص”.
يعيد هذا الاتجاه المتسارع تشكيل المشهد الديني في الولايات المتحدة، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الدين في البلاد. ويتساءل التقرير عما إذا كان المسيحيون سيستمرون في ترك الدين بنفس معدل التسارع الذي شهدناه في السنوات الأخيرة، وكيف ستتسارع وتيرة التحول الديني في المستقبل، حيث يتغير تعريف الأفراد لأنفسهم دينيًا خلال مراحل حياتهم من الطفولة إلى البلوغ.
وفي سبيل المساعدة في الإجابة على تلك الأسئلة، وضع مركز “بيو” للأبحاث عدة سيناريوهات افتراضية توضح كيف يمكن أن يتغير المشهد الديني في الولايات المتحدة خلال النصف القرن القادم.
التحول الديني
تشير الدراسة إلى أن معدلات التحول الديني تتركز بشكل كبير في فئات العمر، حيث يظهر أن العديد من الأفراد الذين نشؤوا في بيئة مسيحية يصبحون غير منتسبين بنسبة 31% بين سن 15 و 29 عامًا. وفي الفترة بين السنوات 1990 و2019، أصبح حوالي 7% من الأفراد الذين نشؤوا مسيحيين غير منتسبين للدين بعد سن الثلاثين.
مقابل ذلك، كان حوالي 90% من البالغين في الولايات المتحدة يصفون أنفسهم كمسيحيين في أوائل التسعينيات. يتوقع التقرير من “مركز بيو للأبحاث” أن يستمر التحول الديني في الولايات المتحدة، مع وضع أربعة سيناريوهات محتملة تتراوح بين فقدان المسيحيين لأغلبيتهم ولكنهم يظلون أكبر مجموعة دينية حتى عام 2070، إلى ازدياد عدم الانتماء لأي دين وتشكيل أقلية ضئيلة، أو حتى بدء تباطؤ وتوقف في وتيرة التحول الديني.
هذه التوقعات تشير إلى أن الولايات المتحدة قد تسلك مسارًا يشبه البلدان الأوروبية التي شهدت تراجعًا في الانتماء المسيحي خلال الخمسين عامًا الماضية. يُظهر التقرير أن التغيرات في معدلات الانتماء يعود بشكل كبير إلى قرار فردي بترك الدين، ولكن يُشير إلى أن هناك عوامل أخرى مثل التغيير في معدلات الخصوبة والهجرة قد تلعب أيضًا دورًا في تشكيل التحول الديني.
تحولات دينية كبرى
في تقرير سابق نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية في عام 2021، أجرى الكاتب رونالد إنغلهارت وزميلته بيبا نوريس بحثًا مدته 12 عامًا حلَّلا فيه بيانات حول الاتجاهات الدينية في 49 دولة. أظهرت البيانات أن الأغلبية العظمى من هذه الدول قلَّت في تدينها منذ عام 2007 حتى عام 2019، ولم يقتصر ضعف إيمان الناس في المعتقدات الدينية على البلدان ذات الدخل المرتفع، بل ظهرت هذه الاتجاهات في معظم أنحاء العالم.
كما أفادت نتائج استطلاع للرأي في عام 2020 أن غالبية طفيفة من البالغين الأميركيين يرون المسيح بن مريم عليهما السلام كمعلم عظيم وليس كإله يستحق العبادة، وهو موقف يختلف عن المعتقد المسيحي التقليدي. ووفقًا لتقرير لـ”الجزيرة نت”، يظهر هذا الاستطلاع أن المسيحيين يتبنون مواقف أقل تقليدية وأكثر تحفظًا تجاه التعاليم الإنجيلية.
في تغطيتها للاستطلاع الذي أجرته “ليغونير ميينيستريز”، ذكرت صحيفة “نيوزويك” الأميركية أن النتائج تؤيد ادعاء العديد من القادة الدينيين الذين يروجون لفكرة أن المسيحيين يبتعدون عن التعاليم الإنجيلية التقليدية في الوقت الحالي.
نهاية العالم المسيحي
في كتابها الجديد “نهاية العالم المسيحي”، تقول الفيلسوفة الفرنسية شانتال ديلسول إن الحضارة التي اعتمدت على العقائد المسيحية انهارت منذ نهاية القرن العشرين. تشير ديلسول إلى تراجع المسيحية عن دورها كمرجع مركزي للقوانين والأعراف والأخلاق. يأتي هذا في وقت انتصرت فيه الحداثة بعد سيطرة المسيحية لنحو 16 قرنًا، وفقًا لتقرير سابق لـ”الجزيرة نت”.
ترى ديلسول – المؤسسة لمعهد هانا أرندت للأبحاث – أن “بوادر انهيار الحضارة المسيحية” قد بدأت تظهر منذ فترة طويلة، خاصةً مع التمرد على الأعراف والقوانين الكنسية في عصر النهضة وعصر التنوير. وخلال هذه الفترة، دخلت المسيحية مرحلة صعبة عندما طالبت الحداثة بالاعتراف بحرية الضمير، وهو ما رفضته بعض الكنائس، خاصة الكاثوليكية التي بقيت معادية لليبرالية والفردية.
وبهذا السياق، حاولت المسيحية على مر العقود القليلة الماضية الحفاظ على تأثيرها ونفوذها، ولكنها صدمت بتحديات التحديث وضرورة مواكبة الحريات الشخصية.
إن المسيحية التي تشير إليها المؤرخة والروائية الفرنسية في كتابها هي تلك الحضارة التي استندت أعرافها وقوانينها إلى العقائد المسيحية. وفي رأيها، والذي عبّرت عنه في حوار مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، أصبح من الواضح أن هذه الحضارة اضمحلت تقريبا منذ نهاية القرن العشرين.
تظهر نقص الدول التي ما زالت تعتمد قوانينها وأعرافها على المسيحية، باستثناء حالات قليلة. في معظم الدول المسيحية، أصبح الطلاق والإجهاض قانونيين، مما يعني أن المسيحية لم تعد تلعب دورًا مهمًا في توجيه السياسات والقوانين. وتشير الباحثة إلى أن هذا التحول يشير إلى انحسار تأثير المسيحية كديانة حاسمة.
تؤكد ديلسول أن الحضارة الغربية، التي نشأت عقب نهاية الإمبراطورية الرومانية وكانت مزيجًا من الحضارات اليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية، تتأثر بشكل كبير بتراجع المسيحية. ورغم ذلك، فإن اختفاء المسيحية لا يعني اختفاء الحضارة الغربية بشكل كامل، بل يشكل تحولًا في ملامحها.
تعتقد الفيلسوفة الفرنسية أن “الإنسانية”، التي تعتبر بديلا للعقيدة المسيحية في المجتمعات المعاصرة، تُعتبر إحياءً للقيم المسيحية مثل الرحمة والتسامح والتوبة والغفران والمساواة، ولكن هذه القيم لم تعد ترتبط بشكل مباشر بالدين، بل تقوم بالاستناد إلى العرف والتطبيقات العلمانية.
تعليق واحد