مأزق نتنياهو أم أزمة كيان؟ طوفان الأقصى الذي هز المشروع الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو لم يكن إلا رمزاً بارزاً للأزمة المعقدة التي تمر بها إسرائيل. فكشفت الورطة التي خلفتها حملة الهجمات الإسرائيلية على غزة، التي قادها نتنياهو وحكومته المتطرفة، عن تصدعات عميقة وخطيرة تعيشها المجتمع والهيكل الإسرائيلي. هذه التصدعات تهدد مشروع “الدولة القومية” الذي اعتمد على خلطة من الاستعمار الاستيطاني والأبعاد الدينية والعنصرية.
تركزت جميع الانتقادات، داخل إسرائيل وخارجها، على رئيس الحكومة كعنصر مكسر للوحدة خلال النزاع. فقد فشل نتنياهو في تحقيق أي مكاسب سياسية أو عسكرية، مما جعله مجرد تجسيد للتخبط السياسي والهوة الاجتماعية والتصدعات الكامنة التي أدت إلى هزيمة لم تكن مقتصرة عليه شخصياً، بل كانت ضربة لمشروع إسرائيل بأكمله.
لطالما تبنت إسرائيل صورة لنفسها كدولة ديمقراطية فريدة في منطقة تسودها الاستبداد، وكقوة اقتصادية وتكنولوجية تمتلك قدرة على دمج مكونات مختلفة في مشروع ديمقراطي ليبرالي مستقر وبالتالي تفوق عسكري. ومع ذلك، بدأت أركان هذه السردية تتعرض لشكوك عديدة.
بالإضافة إلى التآكل الداخلي، لم يتم اختبار صمود هذا المشروع في الواقع. فالحروب السريعة والحاسمة التي شنتها إسرائيل، كجزء من نظريتها الأمنية، كانت تعزز هذه السردية داخلياً وخارجياً. ولكن صدمة “طوفان الأقصى” وانهيار نظرية الحرب السريعة، التي كانت تخفي عوامل الضعف لفترة طويلة، جعلتنا نشهد استمرار الهجمات على غزة لأكثر من ثلاثة أشهر دون تحقيق أي أهداف، مما كشف عن ضعف كل هذه الروايات.
طوفان الأقصى الحرب الكاشفة
جاءت عملية “طوفان الأقصى” في زمن تتسارع فيه الكوارث داخل الكيان الإسرائيلي، معززةً حالة الهشاشة البالغة ومتسببة في تعميق الأزمة وتوسيع الفجوة بين مكوناته. تشير تصريحات قادة المقاومة في غزة إلى وعي عميق وفهم دقيق للحالة الداخلية في إسرائيل، حيث يظهر التفكك والارتباك بشكل واضح.
كان الهجوم الإسرائيلي على غزة لحظة حاسمة في تطور مستقبل مشروع إسرائيل، فكشف أن المؤسسات العسكرية والسياسية والاجتماعية لم تعد مستعدة للحروب السريعة التي كانت تعتبر ركيزة لهذا المشروع. وشكلت الخسائر التي تكبدتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر تأثيراً قوياً على المستوى الاستراتيجي، بينما فرضت قضية الأسرى والمعتقلين ضغوطًا كبيرة على بنية المجتمع الإسرائيلي.
الحرب الطويلة على غزة، التي استمرت لأربعة أشهر، كشفت تفاقم الشروخ في المشروع الإسرائيلي وضعف الجيش الإسرائيلي وتدهور أخلاقيات عملياته. أظهرت المقاومة قوة وإصرارًا، بينما برز التفكك الشامل في المؤسسات الإسرائيلية. أدى ذلك إلى تشويش في معادلة الاستقرار التي اعتمدت على القوة العسكرية الساحقة. وازدادت رفضًا دوليًا لجرائم إسرائيل، مما يعزز رؤية المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بأننا نشهد “بداية نهاية المشروع الصهيوني”، معتبرًا أن الفترة القادمة ستكون طويلة وخطيرة.
أشار إيلان بابيه إلى مؤشرات نهاية المشروع الصهيوني، حيث رآى أن “حرب اليهود الأهلية” التي وقعت قبل 7 أكتوبر أبرزت التفكك الداخلي بين المعسكرين العلماني والمتدين في المجتمع اليهودي في إسرائيل. وأشار إلى أن هذه الحرب قد تتكرر، نظراً لعدم قدرة “التهديد الأمني” على تجميع المعسكرين بعد الآن.
بناءً على نظريته، استند بابيه إلى عدة عوامل تشير إلى تفكك المشروع الصهيوني. تضمنت هذه العوامل انهيار قدرة الجيش الإسرائيلي على حماية المجتمع في غزة ولبنان، وتدهور نظرية “جيش الشعب”، وانهيار استراتيجية الحرب الخاطفة والاستباقية. كما وجدت الحرب نفسها تضع ضغطًا كبيرًا على المجتمع الإسرائيلي، وظهور حالة من التشاؤم والقلق الوجودي، وتقليل جاذبية المشروع الإسرائيلي للمهاجرين.
تتسم الأجيال الجديدة من الشبان اليهود في إسرائيل والولايات المتحدة بعدم اقتناعها بمشروع الصهيونية كما كان ذلك في السابق، وزادت الشكوك بشأن مبررات استمراره. يظهر الكاتب جدعون ليفي في هآرتس مؤشرات عديدة للفشل الإسرائيلي أمام الفلسطينيين، من بينها تراجع الأخلاقيات العسكرية والمقاومة الفلسطينية المتنامية.
على الصعيدين الاقتصادي والدولي، يشير بابيه إلى زيادة الفجوة الاقتصادية في إسرائيل وتفاوت الثروة، ويعزو استمرار الاقتصاد الإسرائيلي إلى الدعم الأميركي. ويُلخص الكاتب جدعون ليفي أهم مؤشرات الفشل الإسرائيلي بفقرة تشير إلى أنهم “يواجهون أصعب شعب في التاريخ”، وأن التدمير الذاتي والمشاكل الصحية في إسرائيل وصلت إلى مراحلها النهائية، داعياً إلى تقديم حلاً يتجاوز الحلول العسكرية والأمان.
تحولات مجتمع هجين
إسرائيل لم تنشأ بشكل تقليدي كبقية الدول، حيث لم يكن تأسيسها ناتجًا عن تطور اجتماعي يستند إلى تفاعل السكان مع الأرض. بل كانت تأسيسها نتيجة لمجتمع هجين متنوع في العرق والجنس والثقافة، وذلك كجزء من مشروع إمبريالي للقيام بدور إقليمي. ونتيجة لذلك، فإن إسرائيل تفتقر إلى الأبعاد الحضارية والإنسانية، وظلت مجتمعها متجزءًا ومنقسمًا أفقيًا وعموديًا. واستمرت الدولة في الحفاظ على وجودها بقوة قمعية في مواجهة الشعب الفلسطيني الذي فقد أرضه.
تشكل عملية تشكيل الكيان الإسرائيلي على أساس فكرة استيطانية استعمارية إحلالية، كان هدفها إلغاء حضارة وثقافة الشعب الفلسطيني وتصفية وجودهم بشتى الأساليب. ورغم ذلك، بقيت المقاومة الفلسطينية عائقًا قويًا في قلب المشروع الإسرائيلي.
لم يكن ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي يغفل عن خطورة مزج هذه التركيبة الهجينة في دولة واحدة. وقد أشار إلى ما أطلق عليه “فرن الانصهار”، حيث قال: “تحول الانصهار… هو العامل المحدد، أظهر أننا نتشكل من داخل تلك الفرنجين المتناقضتين، فنجد أنفسنا تشكيلًا هجينًا من جسم يحمل مكونات متنوعة ومتناقضة.”
كانت الجذبة الأولى للمشروع في بداياته تكمن في تحفيز الهجرة اليهودية من جميع أنحاء العالم، لكن الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية فشلت في تحقيق هدفها في صهر هذه الهجرة في بوتقة واحدة كما أراد بن غوريون. وكانت العناصر والمكونات متنافرة بما يجعل عملية الصهر غير فعالة، وبدأت التشققات تظهر تدريجيا.
في خطاب تحذيري، أشار الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين إلى خطورة الانقسام في المجتمع الإسرائيلي، الذي وصفه بـ “أربع عشائر” علمانية، وقومية دينية، ومتشددة، بالإضافة إلى العرب.
يشير مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب (INSS) إلى أن الصراع السياسي يشكل تهديدًا استراتيجيًا على الأمن القومي الإسرائيلي. يُشير التقرير أيضًا إلى تراجع جاد في المناعة الاجتماعية والقومية، ووصول الأمور إلى حد التهديد بالتفكك الاجتماعي، وذلك في ظل ارتفاع التهديدات الأمنية وتأثيرها السلبي على العلاقات مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية المتزايدة.
يتجلى بوضوح التحدي الإثني والصراع الاجتماعي بين اليهود الأوروبيين (الأشكيناز) واليهود الشرقيين (السفرديم)، والذي اتخذ طابعًا طبقيًا وثقافيًا. يستمر الأشكيناز في الوضع المركزي في المجتمع والدولة، في حين يظل يهود الشرق ويهود الفلاشا والعرب في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي، مما يظهر في مستويات الدخل والتوظيف والفرص. يزداد معدل العنصرية بين اليهود، ما يُعتبر تهديدًا وجوديًا حقيقيًا لمستقبل إسرائيل.
تتجلى المخاوف من تغلب اليمين الديني وتحول إسرائيل إلى دولة تعتمد على الهوية الدينية والأساطير التاريخية. يخشى اليساريون والعلمانيون والأجيال الشابة من تأثير اليمين الديني، ويتخذ المتدينون مواقف راديكالية ضد الصهيونية والدولة، مما يتضح في مقاطعتهم لمدارسها ومؤسساتها وجيشها ووسائل الإعلام، وتبنيهم توقيتًا خاصًا بهم.