كيف تتفوق الطبيعة على السرطان؟ دراسة علمية تكشف أسرار مقاومة الحيوانات للمرض الخبيث

تشترك الغالبية العظمى من الكائنات الحية، سواء كانت تمشي على اليابسة أو تطير في السماء أو تسبح في أعماق المحيطات، في سمة بيولوجية واحدة تُعد في جوهرها نقطة ضعف مشتركة: قابلية الإصابة بمرض السرطان.
وفي إطار السعي لفهم هذا المرض بشكل أعمق، أجرى فريق بحثي من جامعة أريزونا الأميركية دراسة علمية امتدت على مدار عقد كامل، وشملت تحليل أكثر من 16 ألف عينة تعود لـ 292 نوعًا من الفقاريات، وهي الكائنات التي تمتلك عمودًا فقريًا وجمجمة، مثل الثدييات والطيور والزواحف وبعض أنواع الأسماك. وقد هدفت الدراسة إلى فهم أسباب تفاوت معدلات الإصابة بالسرطان بين هذه الأنواع، واستكشاف العوامل التي تحكم انتشار المرض في المملكة الحيوانية.
وساهمت نتائج هذا البحث في تسليط الضوء على تطور مرض السرطان عبر الزمن، كما ساعدت في اختبار صحة ما يُعرف بـ “مفارقة بيتو”، وهي نظرية طرحها الطبيب وعالم الأوبئة البريطاني ريتشارد بيتو، وتفيد بأن الحيوانات الأكبر حجمًا والأطول عمرًا، والتي تحتوي أجسامها على عدد أكبر من الخلايا، يفترض أن تكون أكثر عرضة للإصابة بالسرطان.
لكن المفارقة تكمن في أن هذه النظرية لم تصمد بالكامل أمام نتائج الدراسة الجديدة؛ فقد تبيّن أن زيادة حجم الجسم ترتبط فعلًا بارتفاع طفيف فقط في خطر الإصابة، وهو ما يشير إلى أن الكائنات الكبيرة طورت آليات دفاعية متقدمة وفعالة ضد السرطان. كما كشفت الدراسة عن أن الحيوانات ذات فترات الحمل الطويلة تكون أقل عرضة للإصابة بالسرطان، ويرجح أن السبب يعود إلى منح الخلايا وقتًا أطول لإصلاح نفسها قبل الولادة.
وقال الدكتور كارلو مالي، رئيس الفريق البحثي: “حتى وقت قريب، لم نكن نعرف سوى القليل عن معدلات الإصابة بالسرطان في الكائنات الأخرى بخلاف البشر والكلاب وبعض أنواع القوارض”، وأضاف في تصريح لموقع “سايتيك ديلي” المختص بالأبحاث الطبية: “شعرت بقدر كبير من الحماس حين اكتشفنا أنواعًا حية تقل لديها احتمالات الإصابة، لأن ذلك قد يساعدنا على كشف أسرار مقاومة المرض”.
وفي التفاصيل التي نشرتها دورية Cancer Discovery العلمية المتخصصة، اعتمد الباحثون على بيانات من 99 مركزًا بيطريًا وحدائق أحياء بحرية ومراكز رعاية الحيوانات. وتم تحليل عينات من حيوانات نافقة لتحديد أنواع الأورام المصابة بها، ما إذا كانت حميدة أو خبيثة، بهدف رسم خريطة انتشار السرطان بين الكائنات الفقارية.
وكشفت النتائج أن بعض الفصائل، مثل القوارض، تسجل معدلات إصابة عالية تصل إلى 63%، وهي نسبة مشابهة لتلك المسجلة لدى القنافذ وحيوان الأبوسوم، مما يدل على أن الكائنات قصيرة العمر تفتقر إلى آليات فعالة للدفاع ضد السرطان.
في المقابل، أظهرت أنواع أخرى مثل خفافيش الفاكهة وخنازير البحر وبعض أنواع البطاريق، معدلات إصابة منخفضة لا تتجاوز 2%. كما تبين أن الثدييات عمومًا تُعد الأكثر عرضة لتكوّن الأورام، تليها الزواحف، ثم الطيور، وأخيرًا البرمائيات. ويرتبط انتشار الأورام بعدة عوامل معقدة تشمل الحجم، والعمر، ومعدل التكاثر.
ومن المفارقات المدهشة أن حيوانات ضخمة وطويلة العمر مثل الأفيال والحيتان أظهرت مقاومة ملحوظة للسرطان، ويرجع الباحثون ذلك إلى امتلاكها نسخًا متعددة من الجينات المقاومة للأورام، مثل جين TP53، بالإضافة إلى آليات بيولوجية متقدمة لم تُكتشف بعد.
فعلى سبيل المثال، تتميز أجسام الأفيال بحساسية عالية تجاه تدمير الحمض النووي، مما يسمح لها بالتخلص من الخلايا التالفة قبل أن تتحول إلى خلايا سرطانية. كما لاحظ الباحثون أن الأنواع التي تسجل معدلات طفرات جينية منخفضة، تكون أكثر قدرة على مقاومة المرض، في إشارة إلى أن صيانة الحمض النووي وآليات إصلاح الخلايا تلعب دورًا محوريًا في الحماية من السرطان.
واستمرت المفاجآت؛ إذ وجد الباحثون أن الكائنات ذات فترات الحمل الطويلة أقل عرضة للإصابة بالسرطان، على الأرجح لأن المدة الطويلة تمنح الخلايا فرصة أكبر لتصحيح أخطائها الجينية قبل الولادة، مما يقلل من احتمال تحوّلها لاحقًا إلى خلايا سرطانية.
وفي تجربة عملية، قام الفريق البحثي بتعريض خلايا من أنواع مختلفة للإشعاع والعلاج الكيميائي لدراسة مدى مقاومتها، فلاحظوا تباينًا في الاستجابة، دون وجود علاقة مباشرة بين التعرض للعلاج ومعدل الإصابة، مما يشير إلى أن هناك عوامل أخرى – مثل المناعة والتمثيل الغذائي – تؤثر في قدرة الجسم على مقاومة السرطان.
وفي ختام الدراسة، يؤكد الباحثون أن بعض الكائنات الحية تمتلك “قدرات خارقة” في مقاومة هذا المرض، ما يدفع العلماء اليوم لمحاولة كشف أسرار هذه القدرات وتسخيرها في سبيل علاج السرطان عند البشر.
وقال زاك كمبتون، أحد أعضاء الفريق: “نبحث عن الاستراتيجيات التي وضعتها الطبيعة في أجسام هذه الكائنات لمقاومة السرطان، على أمل أن نستفيد منها في معركتنا ضد هذا المرض الفتّاك”.