ثقافة

تاريخ الموشح الحُميني في اليمن: بين الفن والسياسة والتصوف

شهد الغناء اليمني تحولات كبيرة في مراكزه، وكان الموشح “الحُميني” أبرز معالمه حتى منتصف القرن العشرين. وظهر الموشح في القرن الثالث عشر، ولم يكن مجرد إشارة إلى مركز الغناء، بل كان يعكس بطرق غير مباشرة الأوضاع السياسية.

ورغم التنوع الغنائي في اليمن الناتج عن تعدد اللهجات والممارسات الاجتماعية والعرفية، فقد أثرت السياسة بشكل خفي على هذا الموروث الثقافي. ومن بين الظواهر الغنائية التي تلفها الغموض الغناء الصنعاني، الذي يحتوي على كثير من الأسرار والألغاز.

ثلاثة قرون بين مركزين

يُعتبر الموشح أحد العناصر الأساسية في التراث الغنائي اليمني. نشأ الموشح شعراً وغناءً في مدينة زبيد جنوب تهامة، وتعود أقدم نصوصه إلى أواخر العهد الأيوبي في اليمن (1229-1273) أو بداية العهد الرسولي (1229-1456). بدأ استخدامه بلهجة صنعاء على الأرجح في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. ويعد ديوان “مبيتات وموشحات” للشاعر محمد بن شرف الدين (1524-1604) أول ديوان شعر حُميني صنعاني.

ولكن، لماذا انتظرت الأوساط الأدبية في صنعاء حوالي ثلاثة قرون منذ أن عرف اليمن الموشح، لتبدأ في استخدامه؟ بعد انهيار مركز الغناء في زبيد وتعز، أصبحت صنعاء مركزاً لغناء الموشح، ولكنها استخدمته أيضًا في أدوار سياسية عقب اندثار المركز المنافس لنخبتها السياسية.

تأثير السياسة على الموشح الحُميني

المرجح أن الأئمة والنخب الدينية في صنعاء كانوا من أسباب تأخير استخدام الموشح هناك، حيث لم يكن الغناء منخرطاً في السياسة بشكل مباشر، لكن الأثر السياسي عليه كان واضحًا. ورغم ذلك، أصبح الموشح الحُميني جزءاً من الصراع الثقافي والسياسي في اليمن.

دور البلاط الفاطمي في حجب الموشح الأندلسي

نُسب الموشح إلى عرب الأندلس، ولكنه ظل فناً غير مستعمل في المشرق العربي حتى زوال الحكم الفاطمي في مصر على يد صلاح الدين الأيوبي. ربما لعب البلاط الفاطمي دوراً غير مباشر في ذلك، متأثراً بحساسية الصراع بين مؤسسي دولتهم وحكام الأندلس الأمويين، مما أوجد حاجزاً ثقافياً منع انتشار الموشح في المشرق.

ظهور الموشح في المشرق العربي

كان ابن سناء الملك (ت 1212) أول شاعر مشرقي نظم الموشح في مصر، وانتقل الموشح بمحسناته البديعية إلى الشام وبقية بلدان المشرق، حيث أصبح أحد الظواهر الأدبية البارزة. وظهر في اليمن بعد خضوعه للجيش الأيوبي، ليكتسب في العهد الرسولي طابعه المحلي بعد استقلال اليمن عن مصر.

نشأة وانتشار الموشح الحُميني

يُرجح أن الموشح الحُميني نشأ وانتشر في زوايا الصوفية، خاصة في زبيد، حيث كان الغناء دافعاً أساسياً لقول هذا النوع من الشعر وفقاً للممارسات الصوفية. ويُعد الشاعر أبوبكر عيسى بن حنكاش (ت 1266) أقدم وشاح يمني معروف.

ازدهار الموشح في ظل البلاط

ازدهر الموشح في رعاية البلاطات الحاكمة، فمثلاً ارتفع شأن ابن قزمان في عهد المرابطين، ما يشير إلى أن العصور التي شهدت ازدهاراً سياسياً كانت تدعم هذا الفن. كما ارتبط ظهور الموشح في اليمن بتأثير الأيوبيين والرسوليين الذين جاؤوا من مصر.

التشريع الأدبي للموشح الحُميني

وفقاً لمحمد عبده غانم، ربما كان محمد بن شرف الدين أول من رفع من قيمة الشعر الحُميني في الأوساط الأدبية الزيدية بصنعاء، مما ساهم في تشريع الموشح كفن أدبي. ومع ذلك، فإن الأسباب السياسية والأيديولوجية كانت العوامل الأكبر التي حالت دون انتشاره في صنعاء لفترة طويلة.

الخلاصة

ظل الموشح الحُميني لقرون يحمل بين طياته تعبيرات فنية وثقافية وسياسية، تعكس تفاعلات اليمن مع التحولات السياسية والاجتماعية في المنطقة. ومن خلال تأثره بالتيارات السياسية والفكرية المختلفة، أصبح الموشح رمزاً يعبر عن هويته المحلية ويعزز ارتباط اليمن بموروثه الفني العريق.

زر الذهاب إلى الأعلى