بمتحف “أصداء السيرة الذاتية”.. نجيب محفوظ يعود للجمالية بعد 20 عاما
علاقة نجيب محفوظ (1911-2006) بالأماكن كانت علاقة روحية عميقة، إذ لم يكن ينظر إلى المكان كمجرد مكان بل كان يرويه بخياله، مما يمنحه حياة متفردة لا تقتصر على زمان أو مكان محدد. كان يخلق عوالمه الخيالية في الأماكن التي يزورها، مما يمنحها روحًا مفعمة بالحيوية والجمال. بتلك الكلمات والصور الشعرية التي يضفيها، كان قادرًا على تحويل الحارات الضيقة والأزقة المتعرجة إلى عوالم واسعة مليئة بالحب والأمل.
إن الأعمال الأدبية لنجيب محفوظ، التي تتجاوز الخمسين رواية وقصة قصيرة، تدور أساسًا في دائرة جغرافية ضيقة لا تتجاوز قطرها كيلومترين مربعين في منطقة الحسين والجمالية بقلب القاهرة الفاطمية. العجيب في ذلك أنه استطاع صنع عوالم شاملة من هذه الحياة الضيقة، وأسقط جسورًا من الشعور بالمحلية إلى أفق عالمي.
من منطلق الجمالية استوحى محفوظ فكرة “الحارة” التي أصبحت رمزًا للمجتمع والحياة، وأسماء بعض رواياته تشير إلى ذلك، مثل “خان الخليلي” و”زقاق المدق” و”بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”. كانت هذه الروايات تصف حياة الحارات الصغيرة والضيقة المجاورة لمقام الحسين.
من الحارة والتكية، جاءت شخصية “الفتوة” التي تظهر بشكل متكرر في رواياته، وكانت ترمز إلى السلطة بكافة تجلياتها، سواء كانت عادلة أو ظالمة، سمحة أو ضيقة الأفق، عنيفة أو معتدلة وشجاعة.
تحولت التكية، التي كانت ملاذًا لمحفوظ ومكانًا لعزلته وأمانه، إلى جزء لا يتجزأ من عالمه الأدبي. وصفها في رواياته بشكل مفصل، حتى جعل من حجارتها حياة تنبض بالواقعية، ومنها “ملحمة الحرافيش” التي كانت تتناول تجارب الشخصيات داخلها وتفاعلها مع الأحداث.
رحل نجيب محفوظ في عام 2006، وفي نفس العام، تم الإعلان عن تخصيص تكية محمد أبو الدهب بمنطقة الأزهر لتكون مركزًا ومتحفًا له. استغرق تأهيل التكية لعشر سنوات، وافتتحت المرحلة الأولى من المتحف في عام 2019. المتحف يحتوي على مجموعة واسعة من مقتنياته الشخصية، بما في ذلك مكتبته الشخصية وملابسه وجوائزه والأشياء التذكارية التي حصل عليها خلال حياته.
من خلال تأريخ محفوظ ومقتنياته، يمكن لزوار المتحف فهم الشخصية الفذة لهذا الأديب العظيم وتأثير أعماله على الثقافة والأدب.
16 عاما بلا تقدير ولا جائزة:
تسجّل مسيرة الكاتب العظيم نجيب محفوظ، التي امتدّت لست عشرة سنة بلا تقدير أو جائزة، لحظة بتتويج مميزة في قاعة النياشين. تلك القاعة التي تُشرف على عرض أبرز الأوسمة والنياشين والشهادات التي نالها، بما فيها دكتوراه فخرية من الجامعة الأميركية بالقاهرة، وجوائز مرموقة من “بي بي سي” وتكريمات من مهرجانات السينما، وفي مقدمتها جائزة نوبل للآداب التي أضاءت سماء أدبنا في عام 1988.
رحلة الإبداع لم تكن سهلة لمحفوظ، فقد بدأت بانطلاقة متواضعة في سن الثلاثين، حين فاز بجوائز أدبية متتالية، مثل جائزة “قوت القلوب الدمرداشية” عام 1943 عن روايته “رادوبيس”، وتبعتها جوائز أخرى تعكس انطلاقته الأدبية المتميزة. ومع تقدمه في السن، استمرت جوائزه وتكريماته في التراكم، مكّنته من أن يتلألأ بين نجوم الأدب بوصوله إلى قمة تكريماته، جائزة نوبل للآداب.
علاوة على ذلك، تظهر أهمية حي الجمالية في حياة محفوظ، فقد كانت مصدر إلهام أساسي في أعماله الأدبية، حيث جسّدت الحارة الشخصية المصرية بكل تفاصيلها وتنوّعاتها. وفي البيت رقم 8 بحارة قرمز، حيث وُلِد ونشأ، تعلّقت ذكرياته الطفولية والألعاب، وازدادت حبكتها تأثيرًا في أعماله الأدبية المتميزة.
إنها رحلة فنية وحياة مشرقة، تُظهر لنا كيف يمكن للعزلة أن تكون وراء أبرز الإبداعات، وكيف يُمكن لمنطقة صغيرة مثل حي الجمالية أن تخلّد ذكرى الكبار في عالم الأدب.
في حواره مع الغيطاني، يشير صاحب “أولاد حارتنا” إلى عدة عناصر تميزت بها حياته في منطقة الجمالية، بداية من ذكريات الفتوات التي كانت تلعب دوراً مهماً في حياتهم اليومية وخاصة خلال ثورة 1919، وصولاً إلى تفاصيل حياته في المدرسة ومكتبة الغوري في الأزهر، وحتى اللحظات الحميمة التي كان يقضيها في سهراتهم بمقهى الفيشاوي. يُظهر محفوظ أيضًا تأثره العميق بأشخاص وأحداث في حياته، مما دفعه لاستلهام شخصيات روائية من وقائع وأشخاص حقيقيين، مثلما حدث مع شخصية أحمد عبد الجواد.
يعبر محفوظ عن حنينه العميق لهذه المنطقة والتجارب التي عاشها فيها، مؤكدًا أنها لم تغادر ذاكرته أبدًا، وأن وجوده في هذا المكان يثير فيه نوعًا من النشوة والحنين. يشير أيضًا إلى أن كتابته كانت وسيلة له للتعبير عن هذه الذكريات والمشاعر، وكانت مواضيعه الأدبية والفكرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعالم الحارة وثقافتها.
في النهاية، يروي محفوظ تفاصيل جنازته المزدوجة، حيث تم تنظيم جنازة شعبية وفقًا لرغبته في مسجد الإمام الحسين، تعبيرًا عن ارتباطه العميق بهذا المكان الذي ألهم كتاباته، وتبعتها جنازة عسكرية شارك فيها كبار المسؤولين، مما يظهر أهمية هذه المنطقة في حياته وتأثيرها الكبير على مسيرته الأدبية والثقافية.