كيف تحولت البرتغال إلى خطة باء للاجئين؟
لم يعد البرتغال مجرد وجهة مفضلة للمتقاعدين في دول أوروبا الغربية، فقد تحولت خلال العقد الماضي إلى وجهة رائدة للمهاجرين الباحثين عن الاستقرار والإقامة الدائمة، وذلك بسبب مناخها الدافئ وشواطئها المشمسة، إضافة إلى تكلفة المعيشة المنخفضة وتسهيلات الإقامة المقدمة.
الشاب التونسي أحمد بوحميد لم يكن يخطط للعيش في البرتغال في البداية، حيث كانت وجهته المفضلة مثل العديد من الشباب التونسيين إيطاليا، ولكن مع تشديد القوانين الهجرة هناك وزيادة عمليات الإبعاد، قرر بوحميد التوجه إلى البرتغال بتأشيرة شنغن، حيث بدأ العمل كمستشار مبيعات عن بعد مع شركة بريطانية.
وتحولت البرتغال إلى وجهة مفضلة للكثير من المهاجرين من مختلف أنحاء العالم، سواء كانوا قادمين من أفريقيا وجنوب أميركا وآسيا، أو من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، سواء بتأشيرات سياحية أو عبر مهربي البشر.
وتقدم البرتغال تسهيلات إدارية للإقامة والعمل للكفاءات والمهاجرين، مما جعلها خيارًا محببًا للعديد من الأشخاص، خاصة الذين يواجهون صعوبات في الحصول على إقامة في دول أوروبا الشمالية.
إقامة قانونية
رغم أن معدل المرتبات في البرتغال يصل أحيانًا إلى 1500 يورو، وهو أقل بكثير من ما تقدمه دول الهجرة التقليدية، إلا أن البرتغال تعتبر وجهة مفضلة للبعض للحصول على الإقامة القانونية في فضاء الاتحاد الأوروبي، وهو ما يمثل ميزة حاسمة بالنسبة للمهاجرين.
لم تكن الحالة هكذا قبل سنوات، حتى خلال فترة التدفق الكبير للمهاجرين على دول الاتحاد الأوروبي بين عامي 2015 و2017. وبالرغم من إعلان البرتغال استعدادها لاستقبال أعداد من المهاجرين العالقين على الحدود الأوروبية وطالبي اللجوء في ذلك الوقت، إلا أن معظم المهاجرين اختاروا التوجه إلى دول الشمال الأوروبي الأكثر ثراءً.
وكان على البرتغال في ذلك الوقت تقديم حوافز أكبر لتجذب المهاجرين، وقالت رئيسة مجلس اللاجئين في البرتغال، تيريسا تيتو مورايس، إنه يجب على البرتغال أن تقدم نفسها بشكل أفضل للمهاجرين القادمين إلى أوروبا.
دوافع ديموغرافية واقتصادية
خلال العقد الثاني من الألفية، وجدت البرتغال نفسها تواجه أزمة مزدوجة في الجوانب الديموغرافية والاقتصادية، مما دفع الحكومة إلى اعتماد سياسات مرنة لتسهيل قدوم المهاجرين وتعويض الآلاف من المغادرين.
كان الهدف الرئيسي من ذلك هو تحفيز الاقتصاد المتعثر ومواجهة تداعيات الأزمة المالية التي أثرت بشكل كبير على البرتغال، وزادت من معدلات البطالة بين الشباب، مما أدى إلى موجة هجرة كبيرة تضرب أكثر من 300 ألف برتغالي بين عامي 2011 و2013.
بالإضافة إلى ذلك، تعاني البرتغال من تراجع حاد في معدلات الولادات، حيث تعتبر من بين أقل الدول الأوروبية في هذا الصدد، وقد حذر المعهد الوطني للإحصاءات من أنه في حال استمرار هذا الوضع، فإن البلاد ستواجه خسائر تصل إلى 20% من سكانها بحلول عام 2060.
من أجل تعزيز سياسة الانفتاح، قامت الحكومة بتعديل قانون الهجرة في عام 2020، بمنح الجنسية تلقائياً لأطفال المهاجرين بغض النظر عن فترة إقامة والديهم في البلاد.
وفي العام نفسه، أصدرت الحكومة قرارًا تاريخيًا بتسوية وضعية الآلاف من المهاجرين غير النظاميين دفعة واحدة، خاصة العاملين في قطاعي الزراعة والبناء.
وبين عامي 2020 و2022، عملت الحكومة بالتنسيق مع المنظمة الدولية للهجرة والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، لاستقبال حصص من اللاجئين المحتشدين في مراكز اللجوء في أوروبا.
لاجئو المستعمرات
تقليديًا، تُعتبر البرتغال وجهة أساسية للمهاجرين القادمين من مستعمراتها مثل البرازيل وأنغولا والرأس الأخضر وغينيا بيساو.
في مارس/آذار 2023، قدّرت صحيفة “فيزاو” المحلية عدد البرازيليين وحدهم بأكثر من 300 ألف، ما يمثل نحو ثلث المهاجرين الأجانب في البلاد، والذي يبلغ عددهم أكثر من مليون.
ومع ذلك، فإن سياسة الانفتاح تشمل الآن جنسيات أخرى بشكل متزايد، بما في ذلك دول منطقة المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء ودول آسيوية مثل الهند وباكستان ونيبال.
في المقارنة مع سياسات باقي دول الغرب الأوروبي، فإن البرتغال تظل استثناءً، ومن المحتمل أن لا تُشهد انتخابات مارس/آذار المقبلة في عام 2024 أي تغييرات جديدة.
ويشير رمضان بن عمر، الخبير في قضايا الهجرة وعضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى أن الدول الأوروبية، تحت ضغط من الأحزاب اليمينية المتصاعدة، تدرك الأزمة الديموغرافية، لكنها لا تُظهر ذلك في سياساتها للهجرة.
ويضيف بن عمر لـ”الجزيرة نت” أن الدول الأوروبية تتبنى سياسات انتقائية وشاملة، تُذكر بماضيها في مناجم الفحم، حيث ترفض تحمل الأعباء الاقتصادية المرتبطة بالهجرة.
كوستا مهندس الانفتاح
برنامج التأشيرة الذهبية الذي أطلقته الحكومة في عام 2012 كان من بين المبادرات الطموحة التي هدفت إلى تسهيل دخول رؤوس الأموال والكفاءات إلى البرتغال، مقابل مجموعة من المزايا الجذابة، بما في ذلك حصولهم على الإقامة الدائمة والحق في التجنس بعد مرور خمس سنوات من الإقامة القانونية، إضافةً إلى استحقاقهم للحقوق الاجتماعية والضريبية.
يُعتبر أنطونيو كوستا، الرئيس السابق لبلدية لشبونة ورئيس الوزراء السابق الذي قدم استقالته، المهندس الفعلي لسياسة الباب المفتوح للهجرة التي اتبعها الحزب الاشتراكي الحاكم، بهدف مواجهة الاختلال الديموغرافي وسد النقص في اليد العاملة.
قبل توليه السلطة، أبرز كوستا بقوة قضية الديموغرافية في برنامجه السياسي خلال انتخابات عام 2019، حيث وضعت الدولة خططاً لاستقطاب ما لا يقل عن 75 ألف مهاجر جديد سنويًا بهدف الحفاظ على عدد مستقر من السكان النشطين، إلى جانب تبسيط إجراءات العمل والاستثمار.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، قدّمت حكومة البرتغال خطوة إضافية لتهدئة الوافدين من خلال إطلاق إدارة مخصصة لتسريع معالجة آلاف ملفات المهاجرين الوافدين، بهدف تطوير الخدمات وتبسيط إجراءات المراقبة على الحدود.
وفي تصريح لصحيفة “البوبليكو”، أكدت آنا كاترينا مانديس، وزيرة الشؤون البرلمانية المشرفة على السياسة الجديدة للهجرة، أن الهدف من هذه الخطوة هو “تقليل البيروقراطية وتوفير خدمات ملموسة للمهاجرين الذين يختارون الاستقرار في البرتغال”.
إكراهات أوروبية
تظل الاستفادة من سياسة البرتغال المفتوحة على الهجرة موضع شك بعد استقالة أنطونيو كوستا، أحد القادة النادرين في الحزب الاشتراكي الذي قاد حكومة أوروبية، وستتوجه الأنظار إلى خليفته بيدرو نونو سانتوس، الذي انتخب أمينًا عامًا للحزب ومن المتوقع أن يكون مرشحه في الانتخابات المقبلة.
ويعتقد الخبير رمضان بن عمر أن سياسات البرتغال المنفتحة على الهجرة قد تكون ظرفية، خاصةً مع زيادة ضغوط الجبهة اليمينية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي. ويضيف أن “البرتغال لن تسلم من الضغوط والإكراهات الأوروبية، وسيضطرون في النهاية إلى اعتماد سياسات اليمين الأوروبي”.
من جانبه، يعتقد أحمد الشيخ، المحلل السياسي ومدير المركز العربي للدراسات الغربية في باريس، أن الوضع في فرنسا يختلف عن ألمانيا، حيث خسر اليمين المتطرف في المعركة الانتخابية، ويعتمد الوضع النهائي على مسار الصراع ونجاح القوى الديمقراطية في وقف مسيرة الانغلاق التي يقودها اليمين الشعبوي المتطرف في بلدان أوروبية أخرى.
ويتوقع الشيخ أن يلعب أبناء المهاجرين الدور الفعال في هذه المعركة من خلال التفاهم الحضاري مع القوى المتقدمة داخل هذه المجتمعات الأوروبية، التي تسعى إلى تغيير مجتمعاتها وإنقاذها من وحشية اليمين المتطرف.
التزام يخفي تناقض
تظهر الصورة المتضاربة لسياسة الهجرة في البرتغال العديد من التحديات والانتقادات، حيث تواجه الحكومة اتهامات بتفشي شبكات استغلال المهاجرين وتهريب البشر.
في تقريرها حول حقوق اللاجئين والمهاجرين، أبرزت منظمة العفو الدولية “ظروف العمل المسيئة والسكن غير اللائق” للمهاجرين الآسيويين في القطاع الزراعي بعدة بلدات بالبرتغال. وتقدر التقارير أعداد العاملين في المزارع والحقول بأكثر من 35 ألف شخص، حيث يعملون لساعات طويلة بأجور زهيدة.
على الرغم من تعزيز سياسة الترحيب بالمهاجرين الاستثمارات المرتبطة بالقطاع العقاري من خلال نظام التأشيرة الذهبية، فإنها لم تواكب أزمة السكن المتصاعدة وارتفاع الإيجارات. وتشير منظمة العفو الدولية إلى أن أكثر من 38 ألف شخص بحاجة إلى منزل، مع تقارير عن عمليات إخلاء قسري أثرت بشكل غير متناسب على بعض الفئات الضعيفة.
بالرغم من التحديات، يبقى السؤال عن مدى تأثير هذه الانتقادات على مستقبل سياسة الهجرة في البرتغال، وخاصة بعد استقالة القادة المؤثرين في هذا المجال.