ثقافة

التبعية الثقافية: من غرامشي إلى صنصال وأثر المثقفين في العصر النيوليبرالي

في كتابه الأيقوني “كراسات السجن” (1948)، يتناول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي ظاهرة فكرية شديدة الانتشار بين بعض المثقفين الإيطاليين الذين يعتقدون أن الأشخاص في الخارج يتمتعون بقدر أكبر من النزاهة والكفاءة والذكاء مقارنة بالإيطاليين. ويعبر غرامشي عن شعوره بالاشمئزاز من هذه الظاهرة، مشيرًا إلى أن “الهوس بالخارج” يتخذ أشكالًا مملة ومقززة. ويرى أن هذه الظاهرة لا تقتصر على إيطاليا فحسب، بل تنتشر أيضًا في دول أخرى في فترات من الانحطاط الأخلاقي. ويصف غرامشي هذا السلوك ليس فقط على أنه غياب للروح الوطنية، بل أيضًا كعلامة على الغباء.

هذه الظاهرة التي وصفها غرامشي قبل أكثر من 70 عامًا، تجد صدى لها في العالم العربي المعاصر، وتحديدًا في الجزائر. ففي السنوات الأخيرة، برز نموذج الروائي بوعلام صنصال كمثال واضح على هذا “الهوس بالخارج”. صنصال، الذي اكتسب الجنسية الفرنسية مؤخراً، أثار جدلاً واسعًا بسبب مواقفه وكتاباته التي اعتُبرت معادية للتاريخ الجزائري وممجدة للثقافة الأجنبية على حساب الهوية الوطنية. هذه الظاهرة تدفعنا إلى إعادة التفكير في دور المثقف المعاصر وعلاقته بمجتمعه وتاريخه في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم في العصر النيوليبرالي.

يفصل الفيلسوف فرانز فانون، في كتابه “بشرة سوداء ـ أقنعة بيضاء” (1952)، بتفصيل في وصف فئة من المثقفين الذين ينتمون إلى النخب الاستعمارية، بينما يطلق جان بول ساتر عليهم “النخب المتبرجزة التي تزدري شعوبها وتستعير خطاب المستعمر”. ومن الواضح أن هذه الصفات تنطبق على الروائي بوعلام صنصال، الذي كان يشغل منصبًا ساميًا في وزارة سيادية في الجزائر، قبل أن يصبح جزءًا من المشهد الثقافي الفرنسي.

إن تجاوزات صنصال التي ارتكبها أثناء شغله منصبًا في الحكومة الجزائرية، مثل ربطه الثورة الجزائرية بالنازية في روايته “قرية الألماني” (2007)، تثير الكثير من الجدل في الأوساط الأدبية الجزائرية. ولم يقتصر هذا على الكتابات فحسب، بل امتد إلى مواقفه خلال ندواته، مما جعل البعض يتهمه بتزوير التاريخ الوطني.

وتسجل هذه التحولات جزءًا من المشهد الثقافي اليوم الذي يعكس تأثيرات النيوليبرالية، حيث أصبح الفكر نفسه رأس مال رمزي يتم تسويقه من قبل بعض المثقفين، الذين ينتمون إلى النخب التي تروج لخطاب يعارض تاريخ شعوبهم. هؤلاء المثقفون، الذين لم يعد بإمكانهم التحدث باسم الشعب، أصبحوا جزءًا من النظام المهيمن، حيث يحققون مكاسب في ظل السياسات النيوليبرالية.

وفي هذا السياق، يصبح من المهم فهم دور المثقف في ظل السلطة الفكرية والسياسية التي تتداخل في العديد من الحالات. خاصة عندما نلاحظ أن بعض المثقفين قد ينتقلون من صفوف المعارضة إلى صفوف السلطة تحت غطاء المعارضة الظاهرة. وتبرز قضية بوعلام صنصال كمثال حي على هذا التداخل بين الفكر والسياسة، حيث لا يُحاسب المثقف على تجاوزاته في وطنه، بل يتم تكريمه دوليًا في ظل انتقاداته للأنظمة المحلية.

وهنا، يبرز السؤال المهم: لماذا يدافع الإعلام الفرنسي، بكل أطيافه، عن حق صنصال في التعبير حتى عندما تكون كتاباته مليئة بالتزوير والكذب؟ هل يستمر المثقف في الدفاع عن حقه في التعبير طالما كان يتبنى الخطاب الذي يتماشى مع السياسات العالمية، حتى بعد سقوط شرعيته الفكرية؟

زر الذهاب إلى الأعلى